الأرملة
كانت لمياء تسكن في إحدى ضواحي دمشق سعيدة مع ابنتها وزوجها أحمد الذي كان يحبها ويحيطها برعايته، على الرغم من أنهم كانوا يعيشون حياة مادية متواضعة. وفي صباح يوم من الأيام دق جرس البيت، وعندما فتحت لمياء الباب فوجئت برجل يقول لها:هذا بيت فلان؟ قالت: نعم، ماذا تريد؟ فأخرج ورقة، وقدمها لها وقال: هذا تبليغ من المحافظة، يعلمكم بأن بيتكم أصبح تحت التنظيم، وعليكم إخلاءه خلال ثلاثة أشهر، أخذت لمياء الورقة، وقد صدمها النبأ، وأغلقت الباب ، ومضت إلى غرفتها، ثم ألقت بنفسها على السرير، وأخذت تجهش بالبكاء، وتقول بصوت عال: انخرب بيتنا، أين نذهب؟ لا ملجأ لنا إلا الله .. لا ملجأ لنا إلا الله. وعاد زوجها من عمله، وعندما علم من زوجته الخبر أصيب بصدمة كبيرة، وأخذ يصيح: ويلي .. ماذا أفعل، أين أذهب أنا وزوجتي وابنتي؟ . وفي الصباح، وبعد أن هدأت نفسه، وأدرك أن هذا قضاء الله، وليس له إلا التسليم به، وبعد أن تبادل مع زوجته الرأي، قرر البحث عن بيت متواضع يستأجره في الأرياف، وكان له ذلك، وهو يعلم أن هذا سيضاعف مصاريفه، وسيرهق كاهله، وهو موظف بسيط في إحدى المؤسسات ومعاشه لا يكاد يكفيهم. وأشار عليه بعض الأصدقاء بمراجعة المحافظة، للحصول على تعويض عن بيته، فذهب إليها، وراجع الموظف المختص، فأعلمه أن الدولة ستخصص له بيتا في الأرياف، وعليه انتظار دوره، ومضت أربع عشرة سنة وصار لديه أربعة أولاد، وهو ينتظر دوره، وازدادت أحوالهم المادية سوءا، وأصبحوا يعيشون في شظف من العيش. وفي يوم من الأيام، دخل المحافظة وهو يأمل أن يجد خيرا بعد هذا الانتظار الطويل، وفوجئ بالموظف يقول له: إلى الآن لم يخصص لك شيء ، وشعر الزوج بيأس شديد، وضاقت عليه الأرض بما رحبت، وأظلمت الدنيا في عينيه، وأحس بأنه لا يستطيع أن يقف على قدميه، فارتمى على أقرب كرسي، وأخذ يبكي بكاء مرا شديدا، ثم نهض متحاملا على نفس، ورجع إلى بيته ، وما كاد يدخله حتى انهار على الأرض، لقد أصيب بأزمة قلبية شديدة، لم ينجُ منها، وفارق الحياة. وهكذا أصبحت زوجته لمياء وحيدة تكافح من أجل أن تعيش حياة شريفة كريمة هي وأولادها الأربعة. وعلم كثير من الناس قصتها، وأنها بحاجة ماسة إلى المال، لتستطيع إعالة أولادها، فبدأ أهل الخير والإحسان يمدون لها يد المساعد، وهي تدعو الله ليل نهار أن يفرج عنها كربتها. وعلى الرغم من كل هذه الظروف القاسية التي مرت بها، لم تيأس وقررت الذهاب بنفسها إلى المحافظة، ومتابعة قضية البيت الذي وعدوا به منذ سنوات، ولم يحصلوا عليه. ذهبت إلى المحافظة، واتجهت إلى الموظف المختص تسأله عن البيت، وسألها عن اسم زوجها، وعندما علم أنها زوجة ذلك الرجل الذي جاءه يوما يسأل عن البيت، ثم جلس يبكي بحرقة، قال لها: وأين هو؟ فلما علم بوفاته أحس ومن معه من الموظفين بالأسى والحزن الشديد، واقترح أحدهم بأن تذهب إلى مدير مكتب المحافظ، لعله يساعدها في الإسراع بتلبية طلبها.وذهبت إلى مدير المكتب ، وقصت عليه قصتها فتأثر ، وتفاعل معا، وطلب منها تقديم شكوى، ووعدها بدعم شكواها، وعادت إلى البيت بعد أن قدمت الشكوى، وقد أشرقت نفسها ببصيص من الأمل.
وفي يوم من الأيام دق جرس الباب، وعندما فتحته وجدت أمامها رجلا لا تعرفه، ولما شاهد علامات الاستغراب على وجهها قال لها: أنا محام، وقد علمت بقصتك من بعض الأصدقاء، فتأثرت كثيرا وقررت أن أمد إليك يد المساعدة، قالت وهي تحدث نفسها : لا شك بأن الله استجاب لدعائي، فأرسله إلي، إلا أن أملها تبدد عندما سمعته ، وهو يتابع حديثه: وأنا على استعداد لمتابعة موضوع البيت في المحافظة، والعمل على إنهاء معاملة فرز البيت، شريطة أن تسجلي نصفه باسمي لقاء تعبي في إنجاز المهمة، وتأكدي أنني أفعل هذا لوجه الله. صمتت لمياء قليلا وقالت تحدث نفسها: ياله من ثعلب ماكر، إنه يريد أن يأخذ نصف بيتي. قالت: شكرا يا أستاذ على شهامتك، أنا قادرة بإذن الله على تدبير أمري . إلا أنه حاول أن يكرر عرضه، وأن يقنعها بأن هذا من مصلحتها، فهو خبير بأسرار المعاملات، وهو قادر على إنهاء معاملتها بسرعة، وإن لم توكله فتخسر البيت، وحقيقة الأمر أنه مطلع على قصتها، وبطبيعة عمله كمحام، علم أن المحافظة قد خصصت لها بيتا في منطقة الحسينية، فأراد أن يحتال عليها. قالت له لمياء بحزم: أنا لست بحاجة لمساعدتك، وأغلقت الباب في وجهه، ثم ذهبت إلى غرفتها، وأولادها يتساءلون: ماذا يريد هذا الرجل، قالت: لاشيء، هو إنسان ركبه الطمع والجشع، وجاء ليقاسمنا بيتنا، ورفعت يديها تدعو الله تعالى أن يفرج كربتها. وبعد أيام جاءها موظف من المحافظة، وأبلغها أنه قد تم تخصيص بيت لها في منطقة الحسينية، إلا أن عليها أن تدفع مبلغ مئة وخمسين ألف ليرة سورية، ثم أقساطا شهرية، كل قسط خمسة آلاف ليرة. مضت الأيام ، وأصحاب الخير يقدمون لها المساعدة تلو الأخرى، وحين اكتمل المبلغ المطلوب أسرعت إلى المحافظة، وقدمته، وخلال أيام قليلة استلمت البيت، وأقامت به مع أولادها، وكان ولدها الكبير يعمل في إحدى الشركات، فأخذ يسدد الأقساط الشهرية ، وهكذا استطاعت الأسرة بفضل الله، وما قدمه أصحاب الخير لها من مساعدات، أن تجتاز محنتها، وتتغلب على العقبات التي واجهتها، وتعيش حياة كريمة.